بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، الحمد لله الذي بذكره تطال الأعمار ، نحمده تعالى وهو الولي الحميد ، ونستهديه وهوالهادي الرشيد ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ولي المؤمنين وأنيسُ المستوحشين وأمانُ الخائفين أمات وأحيا وأضل وهدى وأفقر وأغنى وعافى وأبلى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله،
جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قالمن طال عمره وحسن عمله)قال: فأي الناس شر؟ قالمن طال عمره وساء عمله)أيها الإخوة والأخوات : الأعمار تطوى، والآجال تفنى فلاَ تَغُرَّنَّكم الحَياةُ الدُّنيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكم بِاللَّهِ الغَرور
( يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ)أ
يها الأخوة الكرام: والأمةُ الإسلاميةُ تختم عامها في كل عام بفريضة الحج وبطاعات وقربات هي أعظم عند الله عزّ وجل من غيرها ، حريٌ بأفراد هذه الأمة أن يقفوا وقفة إجلالٍ وإكبارٍ وإعظام حول الثبات على صراطِ الله المستقيم، فقد علّمنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الأيام كيف نسير على شرعِ الله في انضباطٍ تامّ في الأوقاتِ والمواقيتِ والأزمانِ والأماكِن، ممتثلين قولَ الله عزوجل:
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) وهناك وصيةٌ خص بها حجاجِ بيت الله الحرام في تذكيرهم بقولِه عزّ وجلّ:
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) ففي هذه الآية وغيرها إشارة إلى استدامة الطاعة والثبات عليها في مختلف مراحل الحياة ، فالأيام والشهور والأعوام تنقضي وتمر، فها هو عامٌ هجري آخر من أعوام حياتنا أوشك أن يقلع من ساحة آجالنا وأعمارنا، وأوشك عام جديد أن يحلّ بهذه الساحة، ساحة العمر والأجل، فما أسرع ما انقضى العام.
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيـام وهن قلائــل
أ
يها الإخوة : إننا إذ نودع هذا العام ، فإن كل واحد منا يستشرف من خلاله أحداثا وعظات ، فكم شَقِيَ فيه من أناس، و كم سَعُدَ فيه من آخرين؟ و كم من طفل فيه قد تيتّم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من مريضِ فيه قد تعافى، وسليمِ في التراب قد توارى، و كم من أهل بيتٍ شيعوا وودعوا فيه قريبا ، وآخرون استقبلوا فيه مولودا جديدا ، لا إله إلا الله دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، لا إله إلا الله عناق وفرح وسرور من شوق اللقاء، وأسى وحزن من لوعة الفراق، أيام مرت فيه على أصحابها كالأعوام، وأعوام مرت على أصحابها كالأيام . فعلينا ونحن في وداع العام أن نحاسب أنفسنا كما يحاسب الشريك شريكه في شؤون الدنيا،
قال الفُضيل بن عياض: "من حاسب نفسه قبل أن يُحَاسَب خُفَّ في القيامةِ حسابه، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه، وحَسُنَ منقلبُه ومآبُه، ومن لم يحاسب نفسَه دامت حَسَرَاتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادتُه إلى الخزي والمقتِ سيئاتُه، وأَكيَسُ الناسِ من دانَ نفسَه وحاسبَها وعاتبَها وعمل لما بعد الموت، واشتغلَ بعيوبِهِ وإصلاحِها .
أ
يها الأخوة. إن من فوائد محاسبة النفس أنها تعرِّف الإنسانَ بنعمة الله عليه فيشكرها ويستخدمها في طاعة الله، ويحذَرُ من التعرض لأسباب زوالها، قال تعالى: (
( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ))، فبداية المحاسبة أن تقيس وتوازن بين نعم الله عليك من عافية وأمن وستر وغنى وبين ذنوبك، فحينئذٍ يظهر التفاوت، فتعلم أن ليس لك إلا عفو الله ورحمته أو الهلاك فيلهث لسانك قائلاً:-
حاسبت نفسي لم أجد لي
صالحًا إلا رجائي رحمة الرحمن
ووزنت أعمالي فلم أجد
في الأمر إلا خفـةَ الميـزان
وبهذه المحاسبة يسيء العبد الظن بنفسه؛ فهذا صله بن أشيم يقول بعد صلاة الفجر في دعائه: "اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي لا يستحق أن يطلب الجنة". فإذا حاسبتَ نفسك شعُرتَ بتقصيرك وضعفك وحاجتك لربك فتبادر بالتوبة والإستغفار ، فالاستغفارُ سمةُ المؤمنين كلما أذنبوا وأساؤوا استغفروا ورجعوا إلى الله ؛ لأنه وحده الغافر، قال تعالى:
((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون)) معاشرالأخوة، ومن فوائد محاسبة النفس كذلك أنها تذكّر الإنسان وتبعَثُ فيه الاستعدادَ للقاءِ اللهِ عز وجل. فها هو الأحنف بن قيس كان يجيء بالمصباح فيضع أصبعه ثم يقول: حُسّ يا حنيف، ما حملك على ما فعلتَ يوم كذا ويوم كذا؟ ألك قدرةٌ على النار؟! وهذا يزيد الرقاشي كان يحاسب نفسه كل يوم ويتذكر الآخرة ويقول: " ويحك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا سيتصدق عنك بعد الموت؟! مَن الموتُ طالبه، مَن القبرُ بيته، مَن الدودُ أنيسُه، مَن الترابُ فراشُه، مَن منكرٌ ونكيرٌ جليساه"، ثم يقول: "أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم ما تبقى من حياتكم؟!", ثم يبكي بكاء شديدًا.وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجالسني". فهذا محمد بن واسع فما نقول نحن .
أيها الإخوة ، حاسبوا أنفسكم لتعرفوا رصيدكم من الخير والشر إسأل نفسك: حقوق الله هل وفيتها؟! حقوق العباد هل أديتها؟! متى آخر مرة بكيت من خشية الله؟! فعينان لا تمسهما النار، إحداها عين بكت من خشية الله، ما حالك مع كتاب الله؟! ما حالك مع النوافل والمستحبات؟! فهي علامة الإيمان وطريق محبة الرحمن. ماذا قدّمت لهذه الأمة من خير ؟ وهل كنت داعيًا إلى الخير؟ وهل في غَيرة على دين الله؟ وهل في تعظيم لمحارم الله وتعظيم لأوامر الله وقيامٌ بالواجب؟ حاسِب نفسَك أخي المؤمن عن هذه الفرائض الخمس ما حالك وشأنك معها؟ هل كنتَ من المحافظين لها المؤدِّين لها في أوقاتها الحريصين على إكمالها بمستحبّاتها؟ فالصلاةُ مكيالٌ، فمَن وفّى وُفِّي له، ومن طفَّف فقد علِمت ما قال الله في المطفِّفين. حاسب نفسَك عن زكاةِ مالك: هل أديتَ الزكاة حقَّ الأداء، أم كنت مفرِّطًا ومهمِلاً ومتكاسلاً؟ حاسب نفسك عن صيامك وحجِّك.حاسب نفسك وقِف مع نفسك: هل أنت بارٌّ بالوالدين؟ هل الوالدان راضيان عنك؟ هل قمتَ بحقِّهما خيرَ قيام؟ هل أحسنتَ صحبتهما؟ وهل قمت بخدمتهما؟ وهل رعيتَ حقَّهما عند كبرهما، أم كنت من المضيِّعين والمهملين؟حاسب نفسك في بيعك وشرائك: هل أنت من الصادقين في ذلك، أم أنت من الغاشّين الخائنين؟ حاسب نفسَك عن مسؤوليّتك التي أنيطت بك: هل أدّيتها على الوجه المرضيّ، أم كنت من الخائنين لأمانتك؟ حاسِب نفسك في الأموال التي أودِعت عندك والأموال التي لك التصرُّف فيها: ما موقفك؟ هل كان حسابك نزيهًا، أو كان حسابك غِشًّا وخيانة؟ هل أديتَ إلى الناس حقوقهم المطلوبةَ وضبطتَها وقمتَ بها أم كنت من المهملين؟
اللهم اجعل يومنا خيراً من أمسنا، وغدنا خيراً من حاضرنا ،نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبسنة خير الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من العذاب المهين ويرحم الله عبدا قال آمين .